العرض في الرئيسةفضاء حر

ذكريات الطفولة .. ملاذ أمن في زمن الحرب

يمنات

محمد المخلافي 

كانت الأجواء ممطرة، والضباب ينتشر على سفوح الجبال، يغزو قريتنا والوديان المحيطة بها. خرجت إلى فناء منزلنا القديم وبدأت ألعب مع الأطفال. كنا نضحك ونتبادل الأحاديث البريئة، مستمتعين بتلك اللحظات التي لا تنسى.

فجأة، سمعت صوتًا يناديني: محمد. كان ذلك صهري حمود دبوان، زوج أختي، رحمه الله. أجبتُه بسرعة. قال: تجهز، سأخذك معي إلى مركز مدينة تعز، كما وعدتك سابقًا. فمدينة تعز تبعد حوالي 20 كيلومترًا عن قريتنا. دخلت البيت بسرعة، غيرت ملابسي، ومن شدة الفرح، لبست الحذاء بالعكس. ركبنا سيارة شاص كانت مزدحمة بالركاب. تمسكت بالشبك بجانب حمود، وكان يشير لي بيده ويخبرني عن أسماء الأماكن. كنت أصغي له وأركز، وهكذا حتى وصلنا إلى مفرق شرعب القريب من مصنع السمن والصابون غرب مدينة تعز.

هناك، نزلنا وأمسك بيدي. ركبنا باص إلى بئر باشا، ثم توجهنا إلى شارع التحرير. كنت في غاية الانبهار، أُحملق بعيني في كل الاتجاهات؛ فقد كانت السيارات تملأ الشوارع، والبيوت مرتصّة بشكل رائع على جانبي الطريق. كانت تلك هي المرة الأولى التي أزور فيها مدينة تعز، وكان عمري حينها عشرة أعوام.

صعدنا جسر المشاة في شارع التحرير، حيث توقفت للحظات أراقب السيارات المارة وكأنني في عالم من الخيال. بعد ذلك، دخلنا السوق، حيث اشترى حمود بعض الأغراض وأخذ لي آيس كريم كان لذيذًا جدًا. ثم انطلقنا نحو التحرير الأسفل لزيارة أخيه عبد الوهاب في منزله. وبعد تلك الزيارة، اتجهنا إلى فرزة شرعب، ومن ثم عدنا إلى القرية في وقت الظهر.

عدت وأنا أشعر بسعادة غامرة، وقد خزنت في ذاكرتي جميع تلك المشاهد الجميلة التي رأيتها. لم أتوقف عن الحديث، وكان أصدقائي يستمعون إليّ بشغف أثناء سردي لتفاصيل تلك الزيازة. كان صديقي المقرب، محمد ناجي، في مثل سني، دائمًا يسألني ويخيل له تلك الصور في ذهنه. بعد أسبوعين من تلك الرحلة، جمعنا عشرين ريال، وقررنا الذهاب إلى تعز، على الرغم من أن الأجرة في ذلك الوقت كانت 10 ريالات للراكب الواحد.

خرجنا في الصباح الباكر دون أن نخبر أحدا، وركبنا سيارة شاص كانت تنقل المقاوتة إلى مدينة تعز. أوقفنا مسؤول ضرائب القات عند محطة سعيد محمد في منتصف الطريق. وبين زحمة الناس، نزلنا دون أن نسلم أجرة السيارة، ثم صعدنا إلى سيارة أخرى كانت متجهة إلى مركز المدينة. توقفت هذه السيارة في نقطة تفتيش لضرائب القات قبل محرقة القمامة في مفرق شرعب.

قال صديقي: إذا بقينا في السيارة، سنضطر لدفع الأجرة.

رددت عليه: لماذا لا نغامر ونعبر بين أدخنة القمامة إلى الشارع العام؟

نزلنا من السيارة واجتزنا محرقة القمامة وسط الأدخنة وبين الكلاب حتى وصلنا إلى الشارع الرئيسي. بعد ذلك، استقلينا باصًا إلى بئر باشا بريالين. ثم مشينا إلى شارع التحرير، حيث كنت أستعرض أمام صديقي محمد، وأقول: “هذا هو شارع التحرير”. كانت خطواتي تتبع نفس المسارات التي مشيت بها سابقًا مع صهري حمود، حتى صعدنا جسر المشاة في شارع التحرير.

مشينا ببطء نستكشف الأماكن، باتجاه شارع التحرير الأسفل حتى وقت الظهر، حيث دخلنا مطعمًا شعبيًا قديمًا، وطلبنا نفر رز بخمسة ريالات. تغدينا ثم خرجنا إلى الشارع. بالصدفة، سمعت شخصًا ينادي باسمي: محمد سعيد. التفت إلى الخلف، فإذا به سعيد سيف قاسم، قريبي من قريتنا. تفاجأ، وصاح علينا: ماذا تفعلون هناك، أنتم صغار؟ ثم أخذنا إلى الفرزة، حيث ركبنا في سيارة مدهش هزاع وعدنا إلى القرية على خط الحصين بمخلاف.

وصلنا قرب صلاة العصر إلى سوق الخراب القريب من قريتنا كندة، ودفعنا عشرة ريالات لمدهش هزاع أجرة لنا الاثنين. ثم عدنا فرحين إلى القرية، وأخبرنا أصدقائنا بتفاخر أننا زرنا مدينة تعز. كانوا ينظرون إلينا بحسد. كانت تلك الرحلة تجربة رائعة تركت في نفوسنا ذكريات جميلة وممتعة.

ليلة مشحونة بالأحداث

كانت ليلة حالكة السواد مصحوبة برياح قوية. ورغم ذلك، كان الناس من مختلف الأعمار، بما في ذلك كبار السن، يتجمعون عند مسجد القرية مع جهاز تلفزيون قديم “أبيض وأسود” بعد صلاة العشاء لمشاهدة أحداث حرب الانفصال في صيف 1994 بين صنعاء وعدن. 

فجأة، بينما كنا نشاهد مجريات الحرب، سمعنا صوت إطلاق نار كثيف قادم من مدينة تعز القريبة من قريتنا. وبعد دقائق، ظهر المذيع أحمد الذهباني، رحمه الله، ليعلن أن تعز تعرضت لصاروخ من نوع سكود أُطلق من عدن وسقط في جبل صبر دون أن ينفجر.

كان بعض شباب القرية المجاورة لنا يؤيدون الحزب الاشتراكي في حربه على شمال اليمن، بما في ذلك مدينة تعز. حتى إنهم أشعلوا إطارات السيارات ابتهاجًا باستهداف مدينة تعز.

كنت مع أصدقائي محمد ناجي من قريتي، وعلي ناجي مرشد، وعبد الواحد دبوان يحيى من القرى المجاورة. كنا نجتمع عند مخبز سوق الخراب الذي يعمل فيه أحمد العديني. كنا نجلس هناك حتى العاشرة مساءً نتبادل الأحاديث والحكايات والضحكات، لكن في تلك الليلة كنا منزعجين جدًا من أولئك الشباب الذين احتفلوا بضرب تعز.

اتفقنا نحن الأربعة على أن نلتقي مساء الغد عند المخبز الساعة الثامنة والنصف، بحيث نرتدي ملابس عسكرية ونداهم القرية، متظاهرين أننا عساكر جئنا للقبض عليهم بسبب دعمهم وتأييدهم للحرب ضد شمال اليمن.

في اليوم التالي، التقينا حسب الاتفاق، ثم اتجهنا مباشرة نحو القرية، حيث كان يتقدمنا عبد الواحد بملابس مدنية، بينما كنا نحن خلفه نرتدي ملابس عسكرية. في مدخل القرية، توقفنا، وذهب عبد الواحد سريعا إلى بيته. بعد ذلك، دخلنا القرية، ناديت: يا عبد الواحد بصوت مرتفع. خرج عبد الواحد على ضوء الفانوس، ورد عليّ: من أنت وما الذي تريده؟

رد عليه علي ناجي: من الذي أشعل الإطارات واحتفل؟

صمت عبد الواحد، وظهر أخوه وآخرون. وبمجرد أن لمحوا الملابس العسكرية، ظنوا أننا عساكر جئنا للقبض عليهم. هرب بعضهم باتجاه الجبل، بينما احتمى آخرون تحت سياراتهم، ودخل آخرون إلى بيوتهم. أما نحن، فأخذنا طريقًا آخر وعدنا من حيث جئنا. هناك التقينا بعبده دبوان، رحمه الله، وهو يغلق محله المجاور للفرن، وكان يظن أننا عساكر.

سألنا عن الحرب، وكنت أتحدث معه مغيرًا لهجتي، فقلت له إننا قد وصلنا إلى معسكر العند في مدينة لحج القريبة من مدينة عدن. كان يدعو لنا بأن ينصرنا الله. ثم سألته: “أريد دخول مدينة تعز.” فرد عليّ وهو يقلد لهجتي التي غيرتها: امشي إلى مفرق كنده، من هناك يمكنك الدخول إلى تعز.

ودعته ومشينا إلى أسفل الطريق، كنا نضحك ونشعر بالانتصار.

عدنا إلى قريتنا بعد منتصف الليل، حيث نمنا بهدوء بعد ليلة مليئة بالمغامرات. في الصباح الباكر، بدأ الخبر ينتشر بأن العساكر داهموا تلك القرية. كنا نتهامس بصمت، خوفًا من أن يعرفوا أن من داهم القرية هو نحن. كان عمري حينها 16 عامًا، وأصدقائي يكبرونني بسنتين أو ثلاث. كانت الأجواء مشحونة بالتوتر والقلق، لكننا كنا نحتفظ بمشاعر الفخر في قلوبنا، إذ شعرنا بأننا حققنا شيئًا مهما.

مغامرة مراهقين في زمن الحرب

بدأنا نفكر في الالتحاق بالجيش والمشاركة في الحرب. سمعت أن مطهر غالب القيسي سيذهب إلى مدينة تعز للتسجيل في المعسكر. ذهبت إلى بيته في سفح الجبل وسألته: “هل فعلاً ستدخل تعز وتلتحق بالجيش؟”

ابتسم مطهر وقال: نعم، سأدخل تعز غدًا.

أجبته: أريد أن أدخل معك والالتحاق بالجيش.

وافق مطهر وقال: تجهز عند الساعة السابعة صباحًا، سننطلق إلى تعز.

بعد ذلك، ذهبت إلى الوادي لمساعدة جدي في رعي الأغنام. طلبت منه مئتي ريال، وعندما عدنا إلى البيت، أعطاني إياها.

في الصباح الباكر، تناولت الفطور بسرعة، وهرعت إلى طرف القرية في انتظار مطهر حتى وصل. صعدنا أول سيارة متجهة إلى تعز دون أن أخبر أحدًا في البيت.

وصلنا إلى المدينة، وذهبنا إلى مكتب أحد المسؤولين. كان مطهر يعرف مدير مكتبه، فتقدمنا بطلب للالتحاق بالجيش. بعد ساعة، خرج مطهر مبتسمًا وبيده رسالة توصية لقبولنا في معسكر لبوزة في لحج. 

لكن أثناء مرورنا في الشارع متجهين إلى بيت فكري القيسي، ابن عم مطهر، سقطت الرسالة من جيبه. وعندما وصلنا إلى بيت فكري، حاول مطهر إخراج الرسالة، ولكنه لم يجدها.

أين الرسالة؟ سأل بقلق.

عدنا نبحث عنها في الشارع لأكثر من ساعة، لكننا لم نتمكن من العثور عليها. لم يكن لدينا خيار سوى أن نبقى تلك الليلة في بيت فكري.

في هذه الأثناء، في القرية، كان الجميع يبحثون عني. لم أعد إلى البيت، وعندما علموا أنني سافرت مع مطهر إلى تعز، لم ينم أبي وجدي في تلك الليلة، بينما كانت جداتي وأخواتي يبكين عليّ.

وفي اليوم التالي، بعد أن أضعنا الرسالة، لم يكن أمامنا سوى العودة إلى القرية.

في خضم كل هذه التحديات، تتجلى رحلة الطفولة كأحد أهم فصول حياتنا، حيث تتداخل البهجة بالمغامرة، وتُخزن اللحظات في الذاكرة. ورغم كل الظروف، مهما كانت قساوتها، تعكس تلك التجربة روح الشباب المليئة بالتحدي والرغبة في استكشاف العالم، حتى في أحلك الأوقات. تبقى هذه الذكريات شاهدة على قوة الروابط الإنسانية، وأهمية المغامرة في تشكيل هويتنا، مهما تعددت الطرق وتباينت الأقدار.

المصدر: رأي اليوم

للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى